ماهي عورة المرأة أمام المرأة ؟

ماهي عورة المرأة أمام المرأة ؟

إن الناظر في أحوال النساء اليوم يجد البون الشاسع بين لباسهن قبل العشر سنين ، ولباسهن في العصر الحاضر ، ولم يكن ذلك التغير وليد لحظة أو يوم أو شهر أو سنة ، بل تدرج الأمر بنا ، وابتليت النساء بخلع جلباب الحياء ؛ ركضاً وراء ما هو جديد وجميل ، وتتابعن في ذلك ، وانهمكن فيه إلى حد يُخشى منه الانحدار في هوة سحيقة من السفور والانحلال .

ولست هنا في صدد بيان الأحكام الفقهية لذلك ، ولكني في حوار مع من تتساهل في كشف أجزاء من جسدها بحجة أن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة ، يتمثل هذا الحوار في وقفات هي :

( الوقفة الأولى ) : عند التأمل في قوله تعالى : ” يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ” . يلفت أنظارنا أمور منها :
الأول : أن الآية سيقت بعد ذكر قصة آدم وحواء الواردة في قوله تعالى : ” فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ” . إلى قوله : ” فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ” .ولعل مغزى ذكر هذه القصة هو إرشادنا إلى ما فطرنا عليه من الستر ، واستقباح التعري ، وإلا لما بادر آدم وحواء لستر العورة بورق الجنة .
ثم إن قصة آدم ذكرت تمهيداً للنهى عن كشف العورة حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما اغوى أبويهم ، قال القاسمي في محاسن التأويل : ( وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوآت، وخصف الأوراق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري، وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى ) . فكتشف المرأة مع وجود ما يسترها من اللباس من القبح بمكان ، ولا شك أن الشيطان أغوى من فعلت ذلك ؛ كما أغوى آدم وحواء فبدت لهما سوآتهما .
والثاني : أن الآية واردة على سبيل المنة على بني آدم ، والإنعام عليهم بإنزال اللباس ؛ كما امتن على آدم بعدم العري في الجنة في قوله تعالى : ” إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى . وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ” . فجعل ــ تعالى ــ منته عليه وإنعامه بالستر وعدم العري ؛ كمنته عليه وإنعامه بالشبع وعدم الجوع ، فسبحان الله كيف انقلبت النقمة ــ وهي التعري ــ إلى نعمة ــ وهي عدّه من الزينة .
والثالث : أنه ــ تعالى ــ وصف اللباس بشيئين: مواراة العورة، والريش. والريش لباس الزينة ، وهو مستعار من ريش الطير ؛ لأنه زينته ، وإنما قدمت المواراة وهي ستر العورة على الزينة ؛ لأنها الغاية الأولى والأصلية من إنزال اللباس ، والريش وهو الزينة تابع لها ، فسبحان الله كيف انقلبت موازين الناس فأصبحت الغاية الأولى للّباس هي الزينة ، والستر تابع لها .

 

( الوقفة الثانية ) : حديث : ” صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؛ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسلمة الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا ” [1].
وقد بيّن شراح الحديث معنى الكاسيات العاريات بالآتي :
الأول : اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يشف ما تحته ولا يستر .
والثاني : اللواتي يلبسن الثوب الرقيق الصفيق[2] الذي لا يستر الأعضاء بل يبدو حجمها.
والثالث : أَنَّهُنَّ يكشفن بعض أجسامهن، فهن عاريات، أَي بَعضهنَّ منكشف[3] .
وهذا كله متحقق فيما نراه من التعري اليوم ، فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة ؛ إذ لا تسترهن تلك الثياب ، ومن قال أن الحديث وارد في المرأة أمام الرجال فعليه بالدليل ، إذ الأصل في النصوص الشرعية العموم إلا إن خصصت بدليل ، ولا دليل هنا يخصص الحديث بكونه وارداً في المرأة أمام الرجال .

 

( الوقفة الثالثة ) : ورد في الحديث ” لَا تَمْشُوا عُرَاةً “[4] . ومنه يستنبط أن الأصل في التعري التحريم ، بل قد ورد في حديث آخر ” احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك . قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً ؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس ” [5].
وبناء على دلالة هذا الحديث ، فقد اختلف العلماء في وجوب ستر العورة المغلظة في الخلوة ، فذهب بعضهم إلى أن الحديث يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً ، و مذهب الجمهور جواز الكشف للحاجة كالاغتسال ونحوه[6] .
وكلامهم هذا يدل على أن كشف العورة في الخلوة لغير حاجة لا يجوز ، وهذا كله يدل على شأن الستر وترغيب الشرع به ، وقبح التعري ونبذ الشرع له .

 

( الوقفة الرابعة ) : حال الصحابيات ، فالذي جرى عليه عمل نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونساء الصحابة ، ومن اتبعهن بإحسان من نساء الأمة إلى عصرنا هذا هو الستر ونبذ التعري ، فلم ينقل عن الصحابيات أنهن يتكشفن في بيوتهن ، ويلبسن ما يكشف الساقين أو الظهر ونحوه ، بل قد نقل عنهن ما يضاد ذلك من حب الستر والحرص عليه .
فعن عُرْوَةَ أَنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ فَأَرْسَلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِكِسْوَةٍ من ثياب مَرْوِيَّةً[7] وَقَوْهِيَّةً [8]رقاق[9] عتاق بعد ما كُفَّ بَصَرُهَا. قَالَ: فَلَمَسَتْهَا بِيَدِهَا ثُمَّ قَالَتْ: أُفٍّ! رُدُّوا عَلَيْهِ كِسْوَتَهُ. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ: يَا أُمَّهْ إِنَّهُ لا يَشِفُّ. قَالَتْ: إِنَّهَا إِنْ لَمْ تَشِفَّ فَإِنَّهَا تَصِفُ. قال: فَاشْتَرَى لَهَا ثِيَابًا مَرْوِيَّةً وَقَوْهِيَّةً ، فَقَبِلَتْهَا وَقَالَتْ: مِثْلَ هَذَا فَاكْسُنِي[10].
فهذه أسماء ــ رضي الله عنها ـ بعدما كفَّ بصرها ، وبلغت من العمر ما بلغت ترد هدية ابنها من القماش الذي لا يشف ، ولكنه يصف حجم العظام ، ولم تعذر نفسها بكف البصر ، أو بكبر السن ، فتتساهل بلبس ما يصف من الثياب ؛ كحال نسائنا اليوم .
وعن فاطمة بنت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنها ـ أنها قالت لأسماء بنت عميس ـ رضي الله عنها ـ : إِنِّي أَسْتَقْبِحُ مَا يُصْنَعُ بالنساء ؛ يطرح على المرأة الثوب[11] فيصفها [12]. فقالت: يَا ابْنَةَ رَسُوْلِ اللهِ أَلاَ أُرِيْكِ شَيْئاً رَأَيْتُهُ بِالحَبَشَةِ؟ فَدَعَتْ بِجَرَائِدَ رَطْبَةٍ فَحَنَتْهَا ثُمَّ طرحت عليها ثوبا، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ، إِذَا أنا مت فغسليني أنت وعلي، ولا يدخل أحد علي. فلما توفيت صنع بها ما أمرت به [13].
قَالَ ابن عبد البر : فاطمة ــ رضي اللَّه عنها ــ أول من غطي نعشها من النساء فِي الإسلام عَلَى الصفة المذكورة فِي هَذَا الخبر[14]، ثم بعدها زينب بنت جحش ــ رضي اللَّه عنها ــ صنع ذلك بها أَيْضًا[15] .
فلنتأمل جميعاً حرصها على الستر بعد الممات ، فقد كرهت ـ رضي الله عنها ـ ما يصف حجم عظامها بعد موتها عند الرجال ، وقد ارتفع عنها التكليف ، فكيف هو يا ترى حرصها عليه في حياتها؟!

 

( الوقفة الخامسة ) : ورد في الحديث : ” إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيِيٌ سِتِّيرٌ يحِبُّ الحَياءَ والسِّتْرَ ” [16]؛ فمن شَأْنه – تعالى – حب السّتْر [17]. قال الطيبي: ( وصف الله بالحياء والستر ؛ تهجناً لكشف العورة وحثا على تحري الحياء والستر ) [18].
ومن أوجه التقرب إلى ( الستير ) – سبحانه – بأن تكون ستّيراً. قال ابن تيمية : ( والله تعالى يحب من العباد أمورًا اتصف بها ؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – إن الله وَتْرٌ يُحبُّ الوَتْر وقال إنهُ جميلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ … ونحو ذلك وقال الراحِمُون يرحمُهُم الرحمن فهو يحب اتصاف العبد بهذه الصفات وتعَبّده بهذه المعاني المحبوبة )[19] .
وقال ابن القيم : ( ولمحبته لأَسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإِحسان والبر … ولما كان سبحانه يحب أَسماءَه وصفاته كان أَحب الخلق إِليه من اتصف بالصفات التى يحبها ) [20]. ولا سيما أن من الصفات التي يحبها الله الستر ، فيشرع للعبد التعبد إليه سبحانه بالاتصاف به .

 

( الوقفة السادسة ) : بالنظر إلى دليل من قال من العلماء بأن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة فإنه لا يخلُ من أدلة عقلية مفادها كالآتي :
الأول : أن المرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل ، وعورة الرجل أمام الرجل من السرة إلى الركبة.
لكن أمر المرأة يختلف عن الرجل ؛ وذلك أنه مبني على الستر وعدم التكشف بخلاف الرجل ، يدل على ذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان”[21]، وعليه فلا تلحق المرأة بالرجل في مسألة العورات .
والثاني من أدلتهم : أن المجانسة موجودة بين النساء ، فتنعدم الشهوة بينهن غالباً .
إلا أنه مع تغير الزمان فإن مفسدة تكشف النساء للنساء فيما دون ما بين السرة والركبة ظاهرة ، والحكم يدور مع علته فمتى انتفت العلة وهي انعدام المفسدة في تكشف النساء لبعض ، انتفى الحكم وهو إباحة إبداء المرأة فيما عدا ما بين السرة والركبة من جسدها لغيرها من النساء .

 

( الوقفة السابعة ) : تنازلاً مع من قالت : إن عورة المرأة أمام المرأة ما بين السرة والركبة ، فإن من لبست البنطال لم تستر ما بين السرة والركبة كما قالت ، وكذلك من لبست ما حاذى الركبتين؛ وذلك للآتي :
1_ من لبست البنطال سترت ما بين السرة والركبة لوناً ، لا حجما ً؛ فالبنطال يحدد أجزاء البدن ويظهر تقاطيع الجسم ، وستر العورة يكون باللون والحجم ؛ كما سبق في تفسير معنى كاسيات عاريات في الوقفة الثالثة .
2_ أن من لبست ما حاذى الركبتين ، فلا محالة أن ينكشف جزء من الفخذ عادة عند جلوسها ولو على كرسي ، وعند مشيها ، وهذا مشاهد بيّن لا يمكن إنكاره ، ومن المتقرر في القاعدة الفقهية أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ؛ وعليه إذا لم يتم ستر الفخذ إلا بستر ما تحت الركبة بكثير وجب ستر ذلك .
وأختم ذلك بهمسة لمن تتساهل بكشف أجزاء من جسدها بحجة الحرية الشخصية ، فأقول لها : أنت تؤذين أنظار المؤمنات بهذه المشاهد ، فأي حرية شخصية تمارسين ، وقد قال تعالى : “وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ” . والأذى المعنوي قد يكون أبلغ من الأذى الحسي .

وهمسة للأمهات ؛ كلكن راعٍ وكلكن مسؤول عن رعيته من البنات ، فلو إن بنيتك رفضت إكمال الدراسة ، أتقولين : ( هي حرة ) . أو ( عجزت عن إقناعها ) . أم أنك تبذلين كل ما في وسعك من سبل لإكمالها الدراسة ؟ فهل بذلت كل السبل لستر بنيتك ؟ عاملنا الله جميعاً بستره في الدنيا والآخرة .

كتبته :  د. عبير المديفر

اترك رد