أفكار بسيطة جلبت لأصحابها الملايين

أفكار بسيطة جلبت لأصحابها الملايين

مع اندفاع الكثير من روّاد الأعمال المبتدئين وراء هوس “الفكـرة الجديدة العظيمة” تُرتكب العديد من الأخطاء القاتلة. عندما يقرر رائد أعمال شاب أن يفتتح شركة ناشئة، فهو في الغالب يركّز كل مجهوده على تصميم منتج أو خدمة مميزة جديدة تلفت له الأنظـار وتؤتي أُكلها وتحقق الأرباح على المدى القريب والمتوسط، ثم الاستثمـار والدعم على المدى البعيد.

هذا الولع بالتركيز على الفكرة الجديدة العظيمة التي ستغيّـر العالم قد ينتهي إلى حائط مسدود، ومن ثم يتبخّر كل شيء. ليس متاحا للجميع أن يصل إلى وصفة مشروب غازي ينافس به كوكاكولا وبيبسي، ويؤسس شركة مشروبات عملاقة، ولكن قد يكون متاحا للجميع فعلا الكثير من الخيارات والفرص “الصغيرة” التي تحيط بهما. بمعنى آخر، عجزك عن صناعة مشروب غازي جديد لا يعني أن تصرف النظر عن هذا المجال بالكلية، لأنك -ببساطة- يمكنك أن تصنع علبـة جديدة لتقديم هذه المشروبات، أو ربما ماصّة جديدة، أو حتى غطاء جديد أنيق رخيص الثمن يعود عليك بثروة هائلة.

فلنجعل جوديث تحتسي مشروبها براحة أكبر

في أحد أيام الثلاثينيات من القرن العشرين، كان جوزيف فريدمان وابنته الصغيـرة “جوديث” يجلسان في متجر أخيه الأصغـر المتخصص في بيع الصودا والمشروبات المختلفة. كانت الفتاة الصغيرة تعشق مشروب “مخفوق الحليب والشيكولاتة” (Milk Shake) الذي طلبت أن تتناوله أثناء جلسة أبيها مع عمّها. بنظـرة جانبية سريعة لاحظ أبوها أن الفتاة لا تستطيع الاستمتاع بشكل كافٍ بمشـروبها عبر الماصّة الورقيـة المقدّمة لها التي لا تمكّنها من الوصول إلى محتوى الكوب والشرب بشكل جيد.

لحسن الحظ أن والد هذه الفتاة هو “جوزيف فريدمان”، واحد من أشهر وأهم المخترعين الأميركيين في القرن العشـرين. من هذا الموقف البسيط، بدأ جوزيف العمل على التوصل إلى هيئة ما جديدة للماصّات تجعلها أكثر عملية، فقام بوضع ملفوف مطاطي قريبا من قمة الماصّات بحيث يكون من السهل جدا ثنيها في كل الاتجاهات بدون أن يمنع هذا الانثناء من تدفق المشروب، وبالتالي يمكن لابنته أن تشرب العصير بسهولة.

مع جودة الفكـرة وجودة تنفيذها، قام جوزيف فريدمان بتسجيلها كبراءة اختراع باسمه، وقام أيضا بتجهيز آلة تعمل على تصنيع هذا النوع من الماصّات بشكل سريع. ثم بدأ بعرض اختراعه على العديد من الشركات التي رفضت جميعها أن تشتري حقوقه وتقوم بتصنيعها. الأمر الذي اضطره لبدء شركته بنفسه لتصنيع هذا النوع المطوّر من الماصات، حيث أسس شركة “The Flexible Straw Corporation” في عام 1939. هذا العام هو العام نفسه الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية.

مُلصق إعلاني يروّج للماصّة المرنة واستخداماتها


على مدار سنوات، عانى جوزيف في إيجاد دعم مالي لتطوير اختراعه وجعله قابلا للاستخدام في مجالات وأماكن محددة، حتى استطاع أن يحصل على تمويل من أحد الأصدقاء الذي ساعده على تطوير آلته لإنتاج هذا النوع من الماصّات بشكل جيد، ومن ثم بدأ في بيعها بشكل واسع في منتصف الأربعينيات، حيث حقق البيع الأول له إلى أحد المستشفيات لمساعدة المرضى على شرب السوائل دون الحاجة إلى بذل الجهد في الجلوس وتعديل أوضاعهم، ومن ثمّ بدأ ينتشر في المقاهي والمطاعم المختلفة.

في وقت لاحق، قام جوزيف ببيع حقوق إنتاج وتصنيع هذه الماصّات المرنة إلى شركة ميريلاند كاب (Maryland Cup Corporation) التي تقوم حتى الآن بصناعة مئات الملايين منها سنويا.

لماذا لا يمكن فتح العلبة اللعينة؟!

صحيح أن إيرمال فرايز (Ermal Fraze) كانت له سمعة جيدة جدا في ذلك الوقت باعتباره مالكا لشركة هندسية تحقق نجاحا مقبولا جدا في تلك الفترة من خمسينيات القرن العشرين في أميركا، وكان لديه زبائنه من شركات كبيرة مثل جنرال موتور وناسا وغيرها، لكن من المؤكد أنه لم يكن يتصوّر أن يعرفه العالم كله بسبب إضافة بسيطة أضافها لتصميم علب المشروبات “الكانز” قامت بتغيير وجه هذه الصناعة بشكل كامل تقـريبا.

ما حدث أنه كان في نزهة بسيطة برفقة عائلته وأصدقائه لتناول الغداء في الخارج في أحد الأيام الحارة، وكان قد جلب معه صندوقا كبيرا يضم عددا من علب الصودا والمشروبات الغازية لإرواء العطش أثناء قضائهم هذا الوقت اللطيف في الخارج. كانت المفاجأة في انتظاره أنه قد نسي أن يُحضـر معه أداة “فتّاحة العلب” (Can opener)، وهي الأداة الوحيدة التي من الممكن خلالها فتح علب الصودا.

في تلك الفتـرة لم تكن علب الصودا والمياه الغازية مثل العلب المتوافرة لدينا اليوم، كانت عبارة عن علب مُصمتة بالكامل يتم فتحها من الطرف بواسطة فتّاحة خاصة، وإذا لم يكن معك الفتاة الخاصة بفتح العلب، فهذا يعني أنك من المستحيل أن تفتحها إلا باستخدام آلة حادة، وهو ما فعله بالضبط إيرني فرايز في هذه الرحلة عندما اضطر إلى فتح علب الصودا باستخدام منفاخ السيارة!

عندما انصرف الجميع عائدين إلى منازلهم، لم تنصرف الفكرة أبدا من رأس إيرني فرايز الذي ظل يفكر لعدة شهور بخصوص أزمة فتح علب الصودا وعدم معقولية الموقف الذي يجعله إذا نسي أن يجلب معه فتّاحة العلبة تصبح بلا أي قيمة. في النهاية، وفي إحدى الليالي التي عجز فيها عن النوم قرر أن يقضي وقته في محاولة إيجاد حل لهذه المشكلة من الناحية الصناعية تجعل استخدام علب الصودا والمشروبات الغازية سهلا وتلقائي الفتح دون الحاجة إلى استخدام أي أدوات أخرى.

في عام 1959، كان فرايز قد انتهى من تصميم نوع جديد من علب المشروبات الغازية يُطلق عليها “Pop Top” أو العلب ذات الفتحة في قمّتها. هذه العلب المزوّدة بمفتاح بسيط لفتحها من قمتها، وفي الوقت نفسه تكون العلبة مُحكمة الإغلاق بحيث لا تسمح بتسرّب الغازات أو المشروب خارجها قبل فتحها. هذا التصميم الذي قدّمه فرايز يعتبر هو نفسه التصميم الذي يُستخدم في العالم كله اليوم في كافة أنواع المشروبات الغازية.

بعد تبنّي هذه الفكرة وتطبيقها في شركته بدءا من عام 1963 حقق المنتج انتشارا هائلا لدرجة أن 75% من شركات المشروبات الأميركية كانت تستخدم هذا النوع من العلب في عام 1965. وبحلول عام 1980 -أي بعد عشرين عاما تقريبا من وضع هذا التصميم وطرحه في الأسواق- أصبحت شركة فرايز التي أعاد تسميتها إلى شركة “Dayton Reliable Tool” أو “DRT” تحقق أرباحا سنوية قيمتها 500 مليون دولار كمتوسط بناء على هذا الاختراع الذكي والبسيط في الوقت نفسه.

بمعنى أكثر اختصارا، كل مرة تقوم فيها بفتح علبة مشروبات غازية أو صودا تذكّـر أن الفضل يعود إلى “فرايز إيرني” الذي جعلها بهذه السهولة، وتذكر أيضا أنه حاز من ورائها -رغم بساطتها ظاهريا- ثروة هائلة يستحقها عن جدارة بدون شك.

غطاء القهوة المتنقل يجذب المليارات

منذ تأسيسها في عام 1936، تلعب شركة “Solo Cup Company” الأميركية دورا كبيرا كواحدة من أهم الشركات المصنّعة والمزوّدة للمنتجات الاستهلاكية الخاصة بالطعام والشراب مثل الأكواب والأطباق والملاعق وغيرها. الشركة تقع في إلينوي، واستطاعت أن تحقق مبيعات كبرى في تاريخها وصلت إلى نحو 2.4 مليار دولار. مؤخرا تم الاستحواذ على الشركة في مايو/أيار من عام 2012 بواسطة منافستها شركـة “دارت كونتينر” (Dart Container) التي تعتبر الآن أكبر مصنّع لهذه المنتجات عالميا.

لسنوات طويلة، كانت الشركة تقوم بتصنيع أكواب ورقية وبلاستيكية تُوزّع على المقاهي الكبـرى، حيث يمكن صبّها مباشرة للزبائن الذين يودون شرب القهوة في طريقهم بدون الحاجة إلى الوجود في المقهى. عادة شرب القهوة أثناء قيادة السيارة، أو شرب القهوة أثناء المشي ذهابا إلى العمل أو الجامعة، هي عادة منتشرة للغاية في العالم ككل وأميركا خصوصا حيث الكل مشغول بالذهاب إلى مكان ما أو العودة من مكـان ما.

في منتصف الثمانينيات، ومع ملاحظة الشركة للشكاوى المستمرة من العملاء الذين يتعرضون لمشاكل كثيرة عند شرب القهـوة أو غيرها من المشروبات الساخنة أثناء الحركة، مثل سقوطها أحيانا ولسعها للشفتين أحيانا أخرى وغيرها من المشاكل المعتادة في الأكواب المفتوحة أو المغلقة بشكل نمطي معتاد، بدأت الشركة في طرح مشـروع خاص بتصنيع “غطاء” خاص للأكواب التي يحملها الزبائن المتنقلون والذين يشربون مشروباتهم أثناء الحركة أو القيادة تتلافى كافة هذه المشاكل.

أُسند المشروع من طرف شركة “Solo cup Company” إلى جاك كليمينت بهدف تصميم وسيلة أفضل لشرب القهوة والمشروبات الساخنة تحديدا أثناء الحركة، وهو ما قاد كليمينت إلى تصميم غطاء خاص كان الأول من نوعه يُوضع على قمة أكواب القهوة، يعمل على توفير وسيلة أكثر راحة للمستخدمين أثناء الشرب. يوازن الغطاء بدقة بين منطقة الأنف والفم أثناء ارتشاف القهوة، الأمر الذي جعل من المستحيل سقوط القهوة. فضلا عن أن الغطاء يمنع أيضا من فوران رغوة الكابتشينو واللاتيه وغيرها، ومصمم بأسلوب ذكي يجعل حامله يحتسي القهوة بمنتهى الأريحية.

على مدار سنوات لاحقة، قامت الشركة بتطوير عدد كبير من الأغطية المخصصة للأكواب المتنقلة خفيفة الحركة، وهو ما جعل منتجاتها من أكثر المنتجات مبيعا في أكبر المقاهي العالمية مثل ستاربكس وكوستا وكوزي وولمارت وغيرها، وهو ما ساهم في رفع معدّل أرباحها السنوي إلى ملياري دولار، الأمر الذي جعلها تطلق حملة توسّع بالاستحواذ على شركات أخرى في العقد الأول من الألفية مع تنامي علامتها التجارية.

بمعنى أكثر اختصارا، كان تصميم غطاء متنقّل ذكي يوضع على الأكواب ويمنع سقوط القهوة على ملابس الزبائن أثناء مشيهم أو قيادتهم للسيارة سببا في ارتفاع القيمة السوقية للشركة والعودة بأرباح مليارية لسنوات طويلة.

في النهاية، هذه النماذج تؤكد لك أن الثروة والنجاح والعمل لا يكون فقط باختراع مشروب جديد، بل ربما يكون في صناعة الكوب أو الغطاء، وأن الثـروة ليس شرطا أن تأتي من وراء تصميم وصناعة بذلة جديدة، بل ربما تأتي من وراء تصنيع بعض الأزرار. فقط كل ما تحتاجه تحديد مشكلة صغيـرة تجد لها حلا مناسبا، تسجّل حقوقه القانونية، تؤسس الشركة، ثم تنطلق!

اترك رد